التفسير المختصر لسورة الناس (القرطبي)

التفسير المبسط لسورة((النَّاسِ)) من الكتاب القرطبي

سورة((النَّاسِ ))

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }

قوله تعالى : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ {1} مَلِكِ النَّاسِ {2} إِلَهِ النَّاسِ {3}

قوله تعالى : ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ))أي مالكهم ومُصلِح أمورهم . و إنما ذكر أنه رَبُّ الناس ، و إن كان رَبًّا لجميع الخلق لأمرين :
أحدهما -لأن الناس مُعَظِّمون ؛فأعلم بذكرهم أنه ربٌّ لهم و إن عُظِّموا .
الثاني -لأنه أمر بالاستعادة من شرهم ؛ فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يُعيذ منهم . و إنما قال ((مَلِكِ النَّاسِ {2} إِلَهِ النَّاسِ )) لأن في الناس ملوكا فذكر أنه ملكهم ،و في الناس من يعبد غيره فذكر أنه إلههم و معبودُهم ، و أنه الذي يجب أن يُستعاذبه و يُلجاء إليه دون الملوك و العظماء .

قوله تعالى: مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4}

يعنى من شر الشيطان. المعنى : من شر ذي الوسواس ؛ فحذف المضاف؛ قاله الفرّاء . (وبفتح الواو ) بمعنى الأسم ؛ أى المُوسوِس . (وبكسر الواو ) المصدر ؛يعنى الوسوسة . و الوَ سْوَسة -حديث النفس

و قيل أن الوسواس الخناس أبنٌ لإبليس ، جاء إلى حواء ووضعه بين يديها وقال : أكْفُلِيه . فجاء أدم (عليه السلام)1 فقال ماهذا (ياحواء)2 ! قالت جاء عَدُوُّنَا بهذا و قال لي : أكْفُلِيه. فقال : ألم أقل لكِ لا تطيعيه في شيء هو الذي غَرّنَا حتى وقعنا في المعصية،و عَمَد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع ، و علّق كلّ ربع على شجرة غَيْظًا له ؛ فجاء إبليس فقال يا حَوّاء، أين أبني ؟ فأخبرته بما صنع أدم (عليه السلام)فقال : يا خَنّاس ، فحَيِىَ فأجابه. فجاء به إلى حَوّاء و قال : أكفليه ، فجاء أدم (عليه السلام) فحرقه بالنّار وذَرّ رَمادَه في البحر ، فجاء إبليس (عليه اللعنة) فقال : يا حوّاء ، أين أبني؟ فأخبرته بما فعل أد م إياه؛ فذهب إلى البحر فقال :يا خناس ، فحَيِىَ فأجابه ، فجاء إلى حَواء الثالثة و قال : أكفليه . فنظر؛ إليه أد م فذبحه و شواه و أكلاه جميعا. فجاء إبليس فسألها (حواء)1 . فقال : يا خَنّاس، فحَيِىَ فأجابه (فجاء به) من جوف أد م َ و حَوّاء . فقال إبليس : هذا الذي أردت ، و هذا مسكنك في صدر ولد أد م ؛ فهو ملتقم قلب أد م مادام غافلا يوسوس، فإذا ذكر الله لَفَظ قلبه و انخنس. ذكر هذا الخبر الترميدي الحكيم في نوارد الأصول بإسناد عن وهب بن مُنّبَهِّ

و في الخبر أن الشيطان جاثم على قلب أبن أد م فإذ غفل وَسْوَس و إذا ذكر الله خنس

و قال قتادة : (( الْخَنَّاسِ )) الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، فإذا غفل الإنسان وسوس له ، و إذا ذكر العبدُ ربه خَنَس ،

قـــــــوله تعالى : الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5}
قال المقاتل : إن الشيطان في صورة خنزير يجري من إبن أدم مجرى الدم في العروق ، سلّطه الله على ذلك ؛ فذلك قوله تعالى (( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5})) . و في الصحيح عن النّبي صلى الله عليه وسلم ( إن الشيطان يجري من أبن أد م مجرى الدم) و هذا يصحح ما قاله مقاتل
وروى شهر بن حَوْشَب عن أبي ثعلبة الخُشَنىِّ قال :سألت الله أن يُرِيَنيِ الشيطان و مكانه من أبن أدم فرأيته ، يداه في يديه ،و رجلاه في رجليه ، و مَشاعِبه في جسده،غير أن له خَطْماً كخَطْم الكلب .فإذا ذكر الله خنس و نكس . و إذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه ، فعلى ما وصف أبو ثعلبة أنه متشعّب في الجسد ، أي في كل عضو منه شُعبة

قـــــــــوله تعالى : مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ {6}
أخبر أن المُوَسْوِس قد يكون من الناس . قال الحسن : هما شيطانان؛ أمّا شيطان الجنّ فيوسوس في صدور الناس ،و أمّا شيطان الإنس فيأتي في العلانية .
وقال قتادة : إن من الجن شياطين و من الإنس شياطين ، فتعوذُ بالله من شياطين الإنس و الجن
وروى عن أبي ذرّ أنه قال لرجل : هل تعودت بالله من شياطين الإنس ؟ فقال أوَمِن الإنس شياطين؟ فقال : نعم ؛ لقوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ}و ذهب قوم إلى أن الناس هنا يراد به الجن .سُمُّوا ناسا كما سُمُّوا رجال في قوله ((و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا )) سورة الجن _ قوماً ونفرا في قوله تعالى (( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن...))الإحقاف
فعلى هذايكون (( وَ النَّاسِ ))عطفاعلى((الجِنّة )) و يكون التكرير لاختلاف اللفظين.
و ذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث : جاء قوم من الجن فوقفوا . فقيل : من أنتم ؟ قالو :ناس من الجن .وهو معنى قول الفرّاء

وقيل : الوسواس هو الشيطان . وقوله : ((مِنَ الْجِنَّةِ)) بيان أنه من الجن (( وَ النَّاسِ )) معطوف على الوسواس. والمعنى: قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس الذي هومن الجِنّة و من شر الناس . فعلى هذا أمر بأن يستعيد بالله من شر الإنس و الجن و الجِنّة جمع جَنِّ، كما يقال إنسٌ و إنْسِي

و قيل أن إبليس يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الناس فعلى هذا يكون(( فِي صُدُورِ النَّاسِ))عامَّا في الجميع
(( مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ )) بيان لما يوسوس في صدره
وقيل: معنى ((مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ)) أي الوسوسة التي تكون من الجنة و الناس ، وهو حديث النفس

و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ((إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها مالم تعمل أو تتكلم به))رواه أبو هريرة و أخرجه مسلم . فالله تعالى أعلم بالمراد من ذلك

و إن كان خطاء فمن نفسي و الشيطان و إن كان صواب فمن الله وحده

جزاكم الله خير

شكرا على مرورك يا روز